إصلاح التعليم في المغرب بين فشل النماذج السابقة واستشراف البدائل الناجعة
يُعدُّ التعليمُ من أعمدة النهضة في أيِّ أمةٍ تسعى إلى التحرُّر من التخلُّف وتحقيق التنمية الشاملة، وقد وعى المغربُ مبكرًا هذه الحقيقة، فبادر منذ الاستقلال إلى اعتماد إصلاحاتٍ متتالية لمدرسته الوطنية. غير أن هذه الإصلاحات، رغم تعدُّدها وتنوُّعها، لم تثمر النتائج المرجوَّة، بل أصبح التعليم المغربي يعيش اليوم أزمةً بنيويةً تتجلّى في مظاهر عدّة، أبرزُها ضعف المكتسبات التعلمية، الاكتظاظ، الهدر المدرسي، تفكُّك القيم داخل المدرسة، وتزايد الفوارق الاجتماعية بين التعليمين العمومي والخصوصي.
فشل الإصلاحات التربوية في المغرب: الأسباب العميقة
يعود فشل الإصلاحات السابقة إلى جملة من الأسباب المتداخلة، من بينها:
غياب الاستمرارية: فكل حكومة تأتي بإصلاح جديد دون تقييم سابق جديّ، مما يجعل التراكم ضعيفًا والتجربة منقوصة.
المقاربة الفوقية: معظم الإصلاحات تمّت من أعلى دون إشراك فعلي للمدرّسين والفاعلين التربويين في الميدان.
ضعف التكوين: سواء في التكوين الأساس أو المستمر، ظلَّ المدرّس الحلقة الأضعف في الإصلاحات.
سوء الحكامة: غياب تقييم فعّال، وتركيز على الجوانب الشكلية (البنية، العتاد) بدل المضامين والنتائج.
الارتباط بالإملاءات الدولية: كما سنفصّل لاحقًا، كانت لبعض الشروط المالية تأثيرات سلبية على الاستثمار في العنصر البشري.
ورغم الجهود الرسمية المبذولة، تبيَّن أن الإصلاح التربوي لا يمكن أن ينجح من دون التمكُّن من أدوات التخطيط الاستراتيجي، التقييم الموضوعي، والربط الحقيقي بين المدرسة وحاجات المجتمع.
المدرسة الرائدة: محاولة لإعادة بناء المدرسة العمومية
في هذا السياق، أطلق المغرب مشروع "المدرسة الرائدة" في بعض الأكاديميات الجهوية كتجربة نموذجية تُجسّد محاولةً جديدة لتجاوز أعطاب المدرسة التقليدية، بالتركيز على الجودة والابتكار في المناهج، التكوين، والحكامة.
تعتمد المدرسة الرائدة على:
بيداغوجيا نشطة تركز على التعلم التشاركي والمشاريع.
استقلالية في تدبير الزمن المدرسي والبرامج.
تجهيزات حديثة وبيئة مدرسية محفّزة.
تكوين مدرّسين بشكل مكثف مع مواكبة يومية.
وقد أظهرت التجربة في بداياتها بعض المؤشرات الإيجابية، كتحسُّن نسب التعلمات الأساسية في المستويات الأولى، وارتفاع تفاعل الأسر، لكن هناك تحديات جدّية مثل محدودية التعميم، تفاوت التكوينات، وضعف البنيات في بعض المناطق.
لذلك، فإن نجاح المدرسة الرائدة لا يجب أن يُقاس فقط بالمؤشرات التقنية، بل بمدى قدرتها على تحويل المنظومة ككل نحو مدرسة دامجة، فعالة، ومستجيبة لانتظارات المجتمع.
الإملاءات الدولية وتأثيرها في تدهور التعليم
من أبرز العوامل التي زادت من تعقيد أزمة التعليم في المغرب، ارتباطُ السياسات العمومية بإملاءات صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية، خاصة منذ تبنّي المغرب لبرامج التقويم الهيكلي في ثمانينيات القرن الماضي.
فرضت هذه البرامج:
تقليص النفقات الاجتماعية (التعليم والصحة).
ضبط كتلة الأجور وتجميد التوظيف.
خوصصة بعض القطاعات الحيوية.
نتيجة لذلك، أصبح قطاع التعليم يعاني من:
اكتظاظ كبير في الفصول (يتجاوز أحيانًا 40 تلميذًا).
ضعف في التوظيف والتكوين، خاصة مع سياسة التعاقد.
ارتفاع نسب الهدر المدرسي.
غياب العدالة المجالية، خاصة في الوسط القروي.
ضعف الاستثمار في التعليم الأولي.
ولم تعد المدرسة قادرة على أداء وظيفتها التربوية والاجتماعية، مما أدى إلى تراجع القيم، وارتفاع نسب الانحراف والتسرُّب، خصوصًا في المناطق الهشة.
الإملاءات الدولية والتعليم المغربي: قراءة معمّقة في التأثير البنيوي
سؤال العلاقة بين الديون الخارجية وشروط صندوق النقد الدولي من جهة، وتدهور المنظومة التعليمية من جهة ثانية، لا يُعد ترفًا نظريًا، بل هو مفتاح لفهم الإطار السياسي والاقتصادي الذي يتحكم في أولويات الدولة المغربية منذ عقود.
فقد فرضت المؤسسات المالية الدولية على المغرب، مقابل الحصول على القروض، إصلاحات هيكلية مست قطاعي التعليم والصحة بشكل عميق، من أبرزها:
خفض ميزانية التعليم ضمن سياسة تقشف واسعة.
تقليص التوظيف في الوظيفة العمومية، وهو ما أدى إلى ظهور نمط "التعاقد" في التوظيف التربوي.
تجميد الأجور، وتقليص الاستثمار في البنية التحتية.
توجيه الموارد نحو سداد الديون بدل التنمية البشرية.
وقد كانت لهذه السياسات نتائج مباشرة:
الاكتظاظ في الأقسام.
ضعف جودة التعلمات.
انتشار الهدر المدرسي.
تفاقم الفوارق بين التعليم العمومي والخصوصي.
غياب منظومة قيمية قوية داخل المدرسة.
كما أن المدرسة فقدت وظيفتها الاجتماعية في دمج الفئات الفقيرة والهشة، وأصبحت عاجزة عن إنتاج الرأسمال البشري الذي يُفترض أن يُسهم في النهوض الاقتصادي.
غير أن هذا الوضع ليس قدريًا، بل يمكن للمغرب أن يُعيد التفاوض مع هذه المؤسسات بما يضمن احترام أولوياته الاجتماعية، ويُخرج التعليم من دائرة التقشف إلى مجال الاستثمار المستقبلي.
هل من أمل؟ دروس من التجارب الدولية
تمكّنت عدة دول من كسر الحلقة المفرغة للتخلف التربوي باعتماد نماذج ناجحة، أبرزها:
فنلندا: بتقديس دور المعلّم، اعتماد مناهج مرنة، وتحقيق مساواة شاملة.
سنغافورة: بالتركيز على التكوين الجيّد للمدرّسين، والربط الوثيق بين التعليم وسوق العمل.
كندا: باعتماد مدرسة دامجة تشجع على التفكير النقدي، وتُقدّر التعددية الثقافية.
ما يميز هذه التجارب هو:
إرادة سياسية واضحة تعتبر التعليم أولوية وطنية.
الاستثمار في المعلم كحامل أساسي للإصلاح.
وضوح الأهداف، واستقلالية المدرسة.
آليات تقييم صارمة.
انخراط مجتمعي شامل.
المغرب والنموذج المنشود
إذا أراد المغرب أن ينهض فعلاً بمنظومته التربوية، فعليه أن:
يضمن تمويلاً قارًّا ومستدامًا للتعليم، خارج منطق التقشف.
يربط التكوين بواقع المتعلم وسوق الشغل.
يعتني بالمدرس تكوينًا وتحفيزًا وكرامةً.
يُقيم تجاربه التربوية بناءً على مؤشرات علمية مستقلة.
يُفعّل الجهوية التربوية، ويمنح المدرسة استقلاليةً حقيقيةً.
إن الإصلاح الحقيقي ليس في الوثائق ولا الخطط، بل في الأثر الملموس على جودة التعلمات، في ثقة المجتمع بمدرسته، وفي قدرة التعليم على تغيير المصير الفردي والجماعي.
وفي النهاية، تبقى المدرسة المغربية أمام مفترق طرق: إمّا أن تستمر في الانحدار الخاضع لمعادلات مالية لا تراعي الإنسان، أو أن تنبعث من جديد، على أساس رؤية متكاملة، جريئة، تضع المتعلم والمعلم في صُلب الإصلاح، وترى في التعليم قاطرةً لا عالةً على الاقتصاد.